تحول سورية نحو اللامركزية: إصلاحات قانونية لتجنب التسيس وتعزيز الاستقلالية المحلية.

إعداد / أمجد إسماعيل الآغا

كاتب وباحث سوري

مثّل سقوط النظام السوري السابق مساحة سياسية للسوريين يتم من خلالها مناقشة مستقبل البلاد، وتقديم أطروحات سياسية تتعلق بشكل سورية الجديدة، وربطاً بتعدد الانتماءات السياسية والقومية والمذهبية، فقد تنوعت ضمن ذلك أطروحات البعض ما بين دولة علمانية أو إسلامية أو دولة المواطنة، فيما ذهب البعض إلى ضرورة تطبيق اللامركزية بشكلها السياسي أو الإداري، ورغم تعدد الأطروحات إلا أن ما يتم تقديمه أو طرحه يكاد يكون متماثلاً إلى حد ما في الشكل، لكنه مختلف في المضمون، الأمر الذي يقتضي بموجب تعدد الأطروحات البحث عن رؤية وطنية جامعة تتناول مسألة حقوق السوريين، والانتقال الى تشاركية تُعزز حالة الاندماج في الدولة بما يعزز الشعور بأن غالبية السوريين هم جزء من المشروع الوطني السوري.

ما سبق كان مدعاة لانتشار العديد من الاطروحات السياسية والثقافية حول اللامركزية بنوعيها السياسي والإداري. حيال ذلك كان لابد من مناقشة القانون 107 لعام 2011، والذي يُعد الإطار الأساسي لتعزيز اللامركزية في سورية، لكن في المقابل فإن هناك ضرورات لتعديله وتفعيله بشكل حقيقي ليتجاوز كونه نصًا قانونيًا فقط.

يُعد القانون رقم 107 لعام 2011، والذي تم تعديله لاحقًا بموجب القانون رقم 11 لعام 2015، حجر الزاوية في مناقشات اللامركزية والإدارة المحلية في سورية، إذ يهدف هذا القانون بشكل أساسي إلى نقل صلاحيات أوسع من الحكومة المركزية إلى الوحدات الإدارية المحلية، مثل المحافظات والمدن والبلديات، لتمكينها من إدارة شؤونها وتلبية احتياجات مجتمعاتها بفعالية. ومع ذلك، فإن الانتقال من نظام حكم مركزي إلى بنية لامركزية رشيدة في سياق سورية ما بعد سقوط نظام الأسد يواجه تحديات عميقة ومعقدة تتعلق بالوضع السياسي والإداري والأمني الراهن.

ورغم أن القانون 107 دخل حيز التنفيذ في الأول من أكتوبر 2011، ليصبح بمثابة الدستور المصغر للإدارة المحلية، إلا أنه بقي خارج التطبيق العملي، جراء العديد من المعوقات والتي يُمكن إيجازها ضمن معطيين: العيوب الجوهرية في البعد المكاني للامركزية السورية، والعيوب التي جردت البعد الانتخابي للامركزية من أهميته.

في ما يتعلق بإصلاح البعد المكاني لتحقيق اللامركزية الحقيقية في سورية، فإن ذلك يتطلب تعديلات دستورية وتشريعية واسعة لنقل صلاحيات إدارية ومالية حقيقية للوحدات المحلية، وتحديد اختصاصاتها بوضوح، وضمان استقلالية مواردها المالية، كما أن تحرير البعد الانتخابي يتطلب تعزيز المشاركة السياسية المحلية، عبر ضمان استقلالية اللجان الانتخابية، وتطوير قوانين انتخابية تكفل حرية الترشح وتمثيلًا عادلًا، وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية المنتخبة، مع آليات واضحة للمحاسبة، وضمن ذلك لابد من تجنب التسيس واحتكار السلطة، الأمر الذي يتطلب بناء سلطة مركزية قوية وموثوقة توجه العلاقة مع المحليات دون انتهاك حريتها، وإنشاء هيئات رقابية قضائية مستقلة تضمن تطبيق القانون ومنع تجاوز الصلاحيات من قبل أي جهة.

ربطاً بما سبق، فإن اللامركزية في سورية تُعد مسعى معقدًا يتطلب معالجة شاملة للجوانب القانونية والإدارية والسياسية، خاصة أنه في العقود الماضية اتسمت المنظومة القانونية السورية بمركزية مفرطة، مما أدى إلى إضعاف الوحدات المحلية وجعلها خاضعة بشكل كبير للسلطة المركزية. نتيجة لذلك فإن بناء بنية لامركزية رشيدة يتطلب إصلاحًا جذريًا يُخرج البعدين المكاني والانتخابي من مخاطر التسيس واحتكار المصالح الضيقة للقوى المهيمنة.

المعطى الأول: العيوب الجوهرية في البعد المكاني للامركزية السورية

في العيوب الجوهرية في البعد المكاني للامركزية السورية، فإنه يمكن القول بأن المنظومة القانونية في سورية عانت فعلاً من مركزية مفرطة، الأمر الذي أعاق وقيد قدرة الوحدات المحلية على اتخاذ قرارات مستقلة تتناسب مع احتياجاتها الخاصة. هذا الخضوع للسلطة المركزية أدى إلى عدة عيوب جوهرية يمكن إيجازها بالآتي:

1- تركيز الصلاحيات وتهميش الوحدات المحلية.

تميل القوانين السورية إلى حصر الصلاحيات الإدارية والمالية في يد السلطات المركزية، مما يحد من استقلالية الوحدات الإدارية المحلية. على الرغم من وجود قوانين تنظم الإدارة المحلية، مثل قانون الإدارة المحلية رقم 107 لعام 2011، إلا أنها غالبًا ما تكون غير كافية لضمان لامركزية حقيقية، وتترك مجالًا للتفسيرات التي تخدم السلطة المركزية. هذا يقلل من قدرة المحليات على تلبية احتياجات مجتمعاتها بشكل فعال ويجعلها مجرد أذرع تنفيذية للسياسات المركزية.

2- غياب الإطار القانوني الواضح والفعال.

يفتقر النظام القانوني السوري إلى تنظيم قانوني واضح وفعال يتيح توزيعًا متوازنًا للصلاحيات بين المركز والمحليات. كثيرًا ما يتم تفعيل اللامركزية أو تقييدها من خلال قرارات إدارية صادرة عن السلطات المركزية، بدلاً من الاعتماد على أطر قانونية واضحة ومستقلة. هذا الغياب يخلق فراغًا قانونيًا يسمح بتدخلات غير مبررة من المركز، مما يضعف الحكم المحلي ويزيد من تبعيته.

3- نقص التوازن في توزيع السلطة الجغرافية.

يظل التركيز على التقسيم الإداري القديم الذي يخضع للمركز، مما يعزز المصالح الضيقة للقوى المهيمنة. وفي ظل غياب قانون يمنح الوحدات المحلية سلطة حقيقية على إدارة مواردها وتطوير خططها التنموية، فإن هذا الأمر يعيق النمو المتوازن في المناطق المختلفة ويزيد من الفجوة بين المركز والمناطق الطرفية.

ما سبق يفرض وضع آليات لبناء بعد مكاني عميق للامركزية، ولتحقيق لامركزية مكانية حقيقية، يجب تكريس آليات قانونية تضمن نقل صلاحيات فعلية وتعزيز استقلالية الوحدات المحلية ضمن الآتي:

أولاً: تعديل الدستور والقوانين: يتطلب الأمر تعديلات دستورية وتشريعية شاملة تضمن نقل صلاحيات حقيقية للسلطات المحلية في مجالات التخطيط والتنمية وإدارة الموارد المحلية، ويجب أن تُحدد هذه القوانين بوضوح نطاق صلاحيات الوحدات المحلية المستقلة، مع ضمان عدم تدخل غير مبرر من المركز في شؤونها.

ثانياً: تحديد واضح لاختصاصات الوحدات المحلية، إذ يجب أن تُحدد القوانين الجديدة اختصاصات واضحة ومستقلة للوحدات الإدارية المحلية في كافة المجالات الإدارية والمالية والتشريعية، مع وضع آليات لتنسيق العمل بينها وبين الجهات المركزية.

ثالثاً: تعزيز استقلالية الموارد المالية، وهذا يتطلب منح الوحدات المحلية صلاحيات واسعة في توليد الإيرادات الخاصة بها، وتخصيص ميزانيات مستقلة تمكنها من تنفيذ خططها التنموية دون اعتماد كلي على المركز.

رابعاً: تفعيل مبدأ التدرج في تطبيق اللامركزية، حيث يمكن البدء بتطبيق اللامركزية الإدارية والمالية في بعض القطاعات أو المناطق، ثم التوسع تدريجيًا بناءً على تقييم النتائج، مع الاستفادة من التجارب الإقليمية والدولية الناجحة في هذا المجال.

خامساً: إنشاء هيئات رقابية قضائية مستقلة لضمان وجود رقابة قضائية فعالة على قرارات السلطات المركزية والمحلية بغية التزامها بالقانون ومنع تجاوز الصلاحيات، مما يحد من التسيس ويحمي حقوق المحليات.

المعطى الثاني: العيوب التي جردت البعد الانتخابي للامركزية من أهميته يُمكن القول بأن البعد الانتخابي للامركزية في سورية عانى من عدة عيوب قانونية وسياسية حدّت من فعاليته في تعزيز استقلالية المحليات وتفعيل المشاركة السياسية. هذه العيوب جعلت الانتخابات المحلية مجرد إجراء شكلي لا يعكس إرادة الناخبين بشكل حقيقي، وذلك نتيجة عوامل ثلاث:

1- التحكم المركزي في العملية الانتخابية

غالبًا ما تخضع الانتخابات المحلية لسيطرة الأجهزة المركزية، مما يؤثر على نزاهتها وحياديتها، كما أن تهميش دور الانتخابات المحلية يجعلها مجرد أداة لتعزيز السيطرة المركزية بدلاً من تمكين المجتمعات المحلية من اختيار ممثليها بحرية، إضافة إلى ضعف الضمانات القانونية الأمر الذي يقلل من المشاركة السياسية الحقيقية ويجعل المحليات تعتمد بشكل كبير على المركز.

2- تقييد الترشح والتمثيل

قد تفرض قوانين الانتخاب قيودًا على حق الترشح، أو تحد من تمثيل بعض المكونات المجتمعية، أو تعتمد على قوائم مغلقة تابعة لدوائر مركزية، مما يضعف التنوع والتمثيل الحقيقي للمجتمع. هذا يؤدي إلى مجالس محلية تفتقر إلى الاستقلالية، وتكون أدوات بيد القوى المسيطرة بدلاً من أن تكون صوتًا للمواطنين.

3- ضعف دور المجالس المحلية المنتخبة

حتى عند انتخابها، قد تكون صلاحيات المجالس المحلية محدودة، وتخضع لرقابة مشددة من السلطات المركزية، مما يحد من استقلاليتها وقدرتها على التأثير في القرارات المحلية. عدم وجود آليات واضحة للمحاسبة والمساءلة أمام الناخبين يقلل من أهمية الانتخابات كأداة للمشاركة السياسية الفعالة.

وعلى مستوى الآليات الضرورية لتعزيز دور البعد الانتخابي، وتحقيق مشاركة سياسية حقيقية، يجب تنفيذ آليات محددة تضمن انتخابات حرة وشفافة وتعزز الاستقلالية المحلية:

أولاً: ضمان استقلالية اللجنة الانتخابية: يجب أن تكون اللجنة المسؤولة عن تنظيم الانتخابات مستقلة تمامًا عن السلطة التنفيذية، وتتمتع بالصلاحيات اللازمة لضمان نزاهة العملية الانتخابية. يجب أن تشمل هذه الاستقلالية الجوانب الإدارية والمالية والفنية للجنة.

ثانياً: تطوير قوانين الانتخاب: يتطلب ذلك إصدار قوانين انتخابية حديثة تضمن حرية الترشح، وتكافؤ الفرص لجميع المرشحين، وتمثيلًا عادلًا لجميع شرائح المجتمع. يجب أن تتضمن هذه القوانين آليات واضحة لمراقبة الحملات الانتخابية والتمويل، وتوفير بيئة قانونية وسياسية مستقرة تقر بمبدأ سيادة القانون والحقوق السياسية للمواطنين في المحليات.

ثالثاً: توسيع صلاحيات المجالس المحلية المنتخبة: يجب أن تُمنح المجالس المحلية المنتخبة صلاحيات حقيقية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالشؤون المحلية، وأن تكون مسؤولة أمام ناخبيها، لا أمام السلطة المركزية. هذا يشمل صلاحيات في التخطيط، وإدارة الموارد، وتنفيذ المشاريع التنموية.

رابعاً: تعزيز آليات المشاركة السياسية للمواطنين: يتضمن ذلك تسهيل حق المواطنين في الترشح والانتخاب، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني في مراقبة العملية الانتخابية، وتعزيز الشفافية والمساءلة. يمكن تطوير تشريعات تضمن مشاركة أوسع للمواطنين وتشجع على تشكيل منظمات مجتمع مدني تدعم الحكم المحلي اللامركزي.

خامساً: وضع آليات رقابية محلية مستقلة: لتعزيز المحاسبة والشفافية في عمل المجالس المحلية المنتخبة، يجب وضع آليات رقابية محلية مستقلة، بما في ذلك التدقيق المالي والإداري.

ربطاً بما سبق، فإن الإصلاحات الشاملة تتطلب رؤية قانونية متكاملة تعالج الثغرات الحالية في المنظومة القانونية السورية، وتضمن أن تكون اللامركزية أداة حقيقية للتنمية والمشاركة السياسية، لا مجرد صيغة شكلية خاضعة للمركز أو للمصالح الضيقة، كما أن بناء بنية لا مركزية رشيدة في المنظومة القانونية السورية يتطلب مقاربة شاملة ومتعددة الأبعاد، إذ يجب أن تبدأ هذه المقاربة بمعالجة العيوب الجوهرية في البعدين المكاني والانتخابي، والتي جعلت الوحدات المحلية خاضعة للمركز وتفتقر إلى الاستقلالية الحقيقية، ومن الضروري صياغة تشريعات واضحة تحدد صلاحيات المحليات وتضمن استقلاليتها المالية والإدارية، مع تعزيز الرقابة القضائية لضمان تطبيق القانون ومنع تجاوز الصلاحيات.

أما في الجانب الانتخابي، فإنه يجب تحرير العملية الانتخابية من السيطرة المركزية، وضمان نزاهة وشفافية الانتخابات، وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية المنتخبة لتكون ممثلاً حقيقيًا لإرادة المواطنين. إن تحقيق هذه الآليات سيُمكن سورية من تجاوز مخاطر التسيس واحتكار السلطة، والانتقال نحو نظام حكم لا مركزي فعال ومستدام يخدم مصالح المجتمع السوري بأسره.

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *